مقالة: “إذا زلزلت الأرض زلزالها”
الشيخ كمال خطيب
كنت واحدًا ممن شعروا بزلزال فجر الاثنين 6/2/2023، وتحديدًا الساعة 3:17 دقيقة.
لم أتبين إلا بعد عودتي من المسجد من صلاة الفجر أن تلك المداعبة الخفيفة كانت هزة أرضية وزلزالًا مدمرًا ضرب ونزل بأهلنا وإخوتنا في جنوب تركيا وشمال سوريا. وحتى بعد ساعتين من وقوع الزلزال، فلم يكن الحديث إلا عن عدد محدود من الضحايا والمصابين، وما أن مرت الساعات والأيام، إلا وعدّاد الموتى في ارتفاع مستمر حتى بلغ عدد الضحايا الشهداء الآلاف، وبلغ عدد الجرحى عشرات الآلاف، بينما تجاوز عدد المشرّدين ومن أصبحوا بلا مأوى مئات الآلاف.
إعصار ساندي، إعصار كاترينا في أمريكا، زلزال وتسونامي إندونيسيا، زلزال منطقه بام في إيران، زلزال الهند، زلزال الجزائر، زلزال مصر 1996/1992، زلزال تركيا 1999 في منطقه إزمير، العواصف القطبية، فيضانات مكة المكرمة، زلزال تركيا وسوريا 2023، إنها مجموعة أسماء وتواريخ لأحداث غير طبيعية لكنها كلها من الطبيعة التي تشدّنا وتلفت انتباهنا إليها. فمن الناس من يرى في هذه الزلازل أنها مجرد كوارث طبيعية لها تفسيرها العلمي المنطقي، وأنها تحدث وتقع في كل أنحاء الأرض وتصيب كل الشعوب والأمم مطيعهم وعاصيهم، مسلمهم وكافرهم، وأنه لا علاقة لها بأحوال الناس وطاعاتهم وذنوبهم ومعاصيهم، لا بل إنه لا علاقة للدين في كل ما يحصل من ظواهر الطبيعة هذه.
وإن من الناس، وأنا واحد منهم، من يعتقدون أن هذه الزلازل والأعاصير والبراكين كلها من خلق الله سبحانه، وأنها لا تقع بالصدفة ولا بقرار منها وبإرادتها وإنما يحصل كل ذلك بأمر الله سبحانه {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} آية 49 سورة القمر. {وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} آية 2 سورة الفرقان. {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} آية 59 سورة الأنعام.
هذه الزلازل التي تكون مرة ضعيفة ومرة قوية، تكون مرة بأرقام متدنية على مقياس الزلازل “ريختر” والذي سمي بهذا الاسم نسبة لعالم الفيزياء الأمريكي تشارلز فرنسيس ريختر الذي اكتشف جهاز مقياس الزلازل، بينما تكون في أعلى قائمة الأرقام على نفس السلم حيث تكون مدمرة وقاتلة كما كان حال زلزال جنوب تركيا وشمال سوريا الأخير، ليقف الإنسان عاجزًا ليس فقط بجهله عن توقيت وقوعها، وإنما عجزه عن فعل أي شيء إلا قيام من كُتبت لهم الحياة بإحصاء عدد القتلى والجرحى، وإذا هاج البحر وماج، وإذا اهتزت الأرض ومادت.
من الملاحظ وفق الدراسات العلمية المتخصصة أن الهزات الأرضية والزلازل قد أخذت تنشط بشكل كبير ولافت بما لم يكن معهودًا في سابق الأيام، حيث أشارت دراسة بحثية أنه خلال الألف سنة ما بين 856-1897 لم تقع في الكرة الأرضية إلا تسعة زلازل، بينما خلال القرن العشرين أي خلال مائة سنة فقد وقع تسعون زلزالًا، وها نحن في السنوات الأخيرة لا يكاد يمر عقد من الزمان إلا وزلزال مدمر يقع هنا أو هناك، بينما تقع عشرات الزلازل أقل قوة من ذلك.
وإن بعض الدراسات العلمية والتي تعتمد كذلك على السياق التاريخي، فإنها تشير إلى احتمالية كبيرة بوقوع زلزال في منطقة معينة، كما الحديث عن زلزال مدمر يمكن أن يقع في فلسطين خاصة وفي بلاد الشام عامة المحاذية للشق السوري الأفريقي، وإن مثل هذا الزلزال يقع بمعدل مرة واحدة كل قرن “مائة سنة” وأن الزلزال الأخير قد وقع في العام 1927، وكانت له تداعيات كبيرة وآثار مدمرة في مدن الشام يومها حلب ودمشق ونابلس وبيسان والقدس وطبرية وقرى كثيرة أصابها الدمار. وقبل الحديث عن زلزال قد يقع في بلاد الشام فإنه الحديث عن زلزال سيضرب ولاية كاليفورنيا الأمريكية وقد يكون مدمرًا لمدينتي لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو، وكتبت عن ذلك كتب بل إنها أفلام هوليوودية تحاكي سيناريو ذلك الزلزال.
لقد تحدث القرآن الكريم عن تصدع الأرض، وهو ما نراه ورأيناه من آثار زلزال تركيا وكيف تصدعت الأرض وانشقت، وفي هذا قال الله سبحانه: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} آية 13-15 سورة الطارق.
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن رسول الله ﷺ أنه قال: “لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، ويتقارب الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج. قيل وما الهرج يا رسول الله: قال القتل القتل”.
وفي مسند الإمام أحمد قوله ﷺ: “أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، يرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء”.
لا بل إن كتب كثيرين من أهل الكتاب تتحدث عن وقوع الزلازل العينية قبل عودة ونزول السيد المسيح عليه السلام واقتراب الساعة. ونص الحديث النبوي الشريف: “وتكثر الزلازل” في إشارة واضحة إلى أنها كانت ولكن ليس بنفس الكثرة التي تصبح عليها.
كم هي الدروس والعظات في هذه الزلازل حيث تداهمنا وتقلب حياتنا رأسًا على عقب في لحظات قد لا تتجاوز ثلاثين ثانية تتزلزل فيها الأرض والعمارات الشاهقة، وتنهار وتتهدم. ينام الناس مساء مطمئنين وادعين، وإذا بأمر الله جل جلاله يأتيهم وهم نائمون {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} آية 98-99 سورة الأعراف.
وإذا كانت هذه هي زلازل الأرض التي تجعل القرى والمدن خرابًا يبابًا وتقلبها رأسًا على عقب، وإذ بالناس خلال لحظات بين قتيل وجريح وشريد، وبين من هو تحت أطباق ركام البيت الآمن كان يسكنه وما هي إلا لحظة وإذا به ينطبق عليه قول الشاعر:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وإذا كان زلزال الدنيا يجعلنا نرى ونسمع عن الأم تهرب من بيتها وقد بدأ يميد وتنسى أن تحمل معها طفلها أو أنها تحمل طفلًا وتنسى الآخر، أو أنها تحمل الوسادة وهي تظن من شدة الفزع أنها حملت الطفل الذي كان ينام عليها، فينفطر فؤادها لما تعلم حقيقة ما كان، وأن من الناس من يفرّ هاربًا قبل أن يضع ما يستر عورته، وهكذا في مشاهد تجعلنا نعيش مشاهد يوم القيامة قبل وقوعها.
وقد قال في هذا ربنا سبحانه عن زلزلة يوم القيامة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} آية 1-2 سورة الحج. وقوله سبحانه: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} آية1-6 سورة الواقعة. وقوله سبحانه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} آية 1- 3 سورة الزلزلة.
وكم هي عظيمة ومعبرة أبيات شعر المرحوم الدكتور يوسف القرضاوي في قصيدته زلزال مصر من ديوانه “المسلمون قادمون” وقد قال فيها:
أزلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها
وحدّثت الأرض أخبارها بأن المهيمن أوحى لها
غلى مرجل الغيظ في صدرها فأرعشها بعض ما هالها
هي الأم غضبى لفعل بنيها وقد تنذر الأم أطفالها
بها ذهل الأب عن ولده ولم تذكر الأم أطفالها
وكم من فئة في العوالي تمنت لو الكوخ كان سكنًا لها
ثوان أذلت رقابًا عواتي كم ارتقب الناس إذلالها
ثوان إن أردنا هوان الحياة وقد علق الناس أحبالها
لنذكر ما نحن ما حجمنا؟ فما نحن في الأرض أبطالها
تهددنا بالبراكين نارًا إذا شاء ربك إشعالها
وبالريح يعصف إعصارها وبالسيل يقطع أوصالها
وكم أهلكتنا بشح المياه وقالت: علوم الورى ما لها؟
فلا دفع العلم بركانها ولا أخر الرصد زلزالها
لقد أفزعتنا شروخ المباني فقمنا نعالج أخطالها
أليست شروخ الضمائر أنكى إذا استمرأ الناس إهمالها.
وإن مما صح من تشبيه بارع في هذه الأبيات بوصف زلزال مصر، فإنه ينطبق تمامًا على وصف أحداث زلزال تركيا وسوريا.
حينما كان ينزل برسول الله ﷺ وبأصحابه وأمته كرب أو بلاء، فقد كان ﷺ يدعو الله ويقول: “لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض رب العرش الكريم”. وكان إذا حزبه أمر قال ﷺ: “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث”. وكان يرفع عينيه إلى السماء يقول: “سبحان الله العظيم”. “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”.
إن ما شاهدناه من مشاهد الدمار الذي حل بأهلنا وإخوتنا في جنوب تركيا وفي شمال سوريا بفعل الزلزال، ممن قدر الله لهم أن يتقاسموا ومنذ اثنتي عشرة سنة، غرفة البيت الواحد ولقمة الطعام الواحدة وجرعة الدواء الواحدة، منذ بداية حملة الإبادة والتهجير التي ارتكبها بشار الجزار وما يزال، إن هذه المشاهد التي تؤكد لنا على عظيم رابطة الأخوة جمعت بين أهل الشام وأهل تركيا وقد أصبحوا خلال أحداث الزلزال يتشاركون الألم والدموع والبرد والثلج، وقد كان منهم آلاف الشهداء والجرحى ومئات آلاف المشردين.
وإنه عزاؤنا في أن من كتب الله لهم الموت تحت ركام بيوتهم التي هدمت بفعل الزلزال فإنما هم من الشهداء وفي الشهداء، كما قال رسول الله ﷺ: “الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمع شهيد” رواه مالك وأبو داوود والنسائي. وفي صحيح مسلم قال ﷺ: “الشهداء خمسة، المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله عز وجل”.
أسأله جل جلاله أن يلطف بأهلنا وإخوتنا في تركيا وسوريا، وأن ينزل السكينة عليهم، وأن يتقبل شهداءهم، وأن يشفيَ جرحاهم، وأن ينتقم ممن ظلمهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نحن إلى الفرج أقرب فابشروا