مقالة الشيخ كمال خطيب: “مع بداية العام الهجريّ الجديد 1446: إياك أن تصل متأخّرًا”
الشيخ كمال خطيب
يقول التابعي الجليل عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي: خرجنا من اليمن الى المدينة مهاجرين نريد لقاء النبي ﷺ ومبايعته على الإسلام، فلما وصلنا قيل لنا مات رسول الله ﷺ منذ خمس ليال”.
إنه تأخير خمس ليال فقط كانت في عمر الزمان قليلة لكنها حرمته شرف نيل صحبة النبي ﷺ، ورؤية وجهه الأنور، ومصافحة يده الطاهرة، والصلاة خلفه، والجلوس بين يديه والقرآن يتنزل عليه.
خمس ليال كانت كافية لأن أصبح يقال عنه في كتب السيّر والتاريخ التابعي الجليل وكان بالإمكان لو أنه تعجل بالقدوم أن يقال عنه الصحابي الجليل، وكم هو الفارق كبير في الفضل بينهما.
ما أكثرهم الذين يصلون متأخرين، بل ولعلّ منهم من قد لا يصل إلا بعد فوات الأوان وضياع الفرصة الذهبية الوحيدة.
ما أكثرهم الذين إذا دعوا للتوبة والإقلاع عن المعاصي قالوا سوف نتوب وإذا بطارق الموت يطرق بابهم فيرحلون عن هذه الدنيا قبل التوبة بل ولعلهم مقيمون على المعاصي، فليس أنهم قد وصلوا متأخرين وإنما هم الذين رحلوا مبكرين.
ما أكثرهم الذين إذا نصحتهم بالصلاة قالوا سوف نصلي، وإذا نصحتهم بأداء فريضة الحج قالوا سوف نحج عندما يتخرج الأبناء من الجامعة، فإذا تخرجوا قالوا عندما نزوّجهم وإذا بالموت يفاجئهم.
وكم من فتاة إذا دعيت للحجاب والاحتشام اختلقت الأعذار وسوّفت وإذا بملك الموت يطرق بابها، وليس أنها التي وصلت متأخرة، وإنما هي التي لم تصل أبدًا إلا أن تتداركها رحمة الله تعالى إذا هي ماتت على تبرجها وسفورها.
إنها قد تكون فرصة صغيرة وقصيرة، بل إنها قد تكون لحظات هي الفارقة بين أن تصل في الوقت المناسب وبين أن تصل متأخرًا أو أن لا تصل أبدًا، وقد قال في ذلك رسول الله ﷺ: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”.
إنها لحظات وثوانٍ قد تفصل بينك وبين أن تركب القطار وبين أن يُغلق باب المحطة فينطلق القطار وتبقى أنت في مكانك. فإياك أن تصل متأخرًا فيفوتك القطار فتعضّ على أصبع الندم ولكن لات حين ندامة.
عجبًا لمشيك المدلل
وإذا كان عبد الرحمن الصنابحي قد أسلم وهو في اليمن وجاء المدينة لمبايعة رسول الله ﷺ لكنه وصل متأخرًا بعد خمس ليال من وفاة النبي ﷺ، فها هو عمرو بن ثابت وكان يكنى بالأصيرم وهو من بني عبد الأشهل وكانوا من خيار الأنصار، لكن عمرو هذا لم يسلم بل كان يأبى الإسلام إلى أن كان يوم أحد وقد خرج النبي ﷺ إلى أحد، فكان أن ذهب عمرو بن ثابت ليتفقد بعض بني قومه فقيل له أنهم خرجوا مع رسول الله ﷺ إلى أحد، وفي لحظة صدق بدا له الإسلام فأسلم وأخذ سيفه ولحق بهم ودخل بين الصفوف حتى أثخنته الجراح، فلما رآه بنو قومه قالوا: إنه عمرو بن ثابت “الأصيرم” ولقد تركناه إنه منكر هذا الحديث. وكان فيه بعض رمق فسألوه: أحربًا على قومك أم رغبة في الإسلام، فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله وأسلمت، ثم ما لبث أن مات بين أيديهم، فذكروا قصته لرسول الله ﷺ فقال: عمل قليلًا وأُجر كثيرًا”. وفي رواية أنه قال: “هو من أهل الجنة”.
كان أبو هريرة رضي الله عنه يلغز أن يسأل سؤالًا بأنه لغز ينتظر من يعرف الجواب، فكان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط ولم يركع لله ركعة” ثم كان يجيب عن السؤال فيقول إنه “الأصيرم” أسلم ودخل المعركة في أحد ثم استشهد ولم يصل صلاة ولم يركع ركعة، لكن الله علم صدقه فأناله الشهادة في سبيله، وكانت بشارة النبي ﷺ له أنه من أهل الجنة.
وما أجمل قول الشاعر في مثل عمرو بن ثابت لما قال:
عجبًا لمشيك المدلل تمشي الهوينا وتجيء في الأول
إنها تقال في من يمشي بطيئًا ولا يعجل كعجلة الآخرين لكنه في نهاية المطاف يكون في المقدمة وفي أول الصفوف، حيث كانت مشيته هي مشية الواثق والصادق المتزن يضع كل خطوة في مكانها المناسب.
فإذا كان الصنابحي بتأخير خمس ليال قد خسر صحبة رسول الله ﷺ وإن كان بعد ذلك من سادات التابعين وأهل العلم والفضل، فإن الأصيرم قد تأخر حتى اللحظة الأخيرة لم يستطع معها أن يصلي لله ولو ركعة لكنه كان صادقًا في توجهه وإسلامه فجعل الله جزاءه من ذلك الجنة، فتقدم وبادر ولا تسوّف وإياك أن تصل متأخرًا في خدمة دينك وشعبك وأمتك.
هبلتني أمي
ومثل قصة إسلام التابعي الجليل عبد الرحمن الصنابحي وقصة إسلام الصحابي الجليل عمرو بن ثابت “الأصيرم” فإنها قصة إسلام الصحابي الجليل ذو الجوشن الضبابي وكان يسكن أطراف المدينة المنورة، فلمّا سمع بهجرة رسول الله ﷺ إليها جاءه وكانت له فرس شهيرة تسمى “القراء” فأهداه ابنها وهو ما يزال مشركًا لم يسلم، فرفض النبي ﷺ هديته إلا أن يأخذ بدلها تمرًا.
كان النبي ﷺ يدعوه للإسلام يقول له: “يا ذا الجوشن ألا تسلم فتكون من أول هذا الأمر” فكان ذو الجوشن يقول له: إني قد رأيت قومك قد ولغوا بك فإن غلبت قريشًا في مكة أسلمت”، فكان النبي ﷺ يرد عليه: “لعلك إن عشت أن ترى ذلك”.
ودارت الأيام حتى كان يوم فتح مكة وسمع ذو الجوشن كيف دخل النبي ﷺ مكة وما حلّ بقريش وصناديدها بعد إذ جاءته الأخبار، وكان يسأل ويقول ما فعل الناس؟ فكان يقال له: قد والله غلب محمد على الكعبة وقطنها”، فجاء إلى مكة وأسلم ثم رجع إلى قبيلته الضباب فأسلموا وأتى بهم إلى المدينة يبايعون رسول الله ﷺ لكنه كان كثير التلويم لنفسه كيف أنه أسلم متأخرًا ولم يستجب لدعوة رسول الله ﷺ له منذ كان في المدينة، وكان يردد العبارة” هبلتني أمي” ولو أسلمت يومئذ، وهي دعوة على نفسه بالهلاك كيف أنه لم يسلم مبكرًا.
إنه ذو الجوشن وفي الرواية الأخرى أن النبي ﷺ كان يسأله عن سبب تأخر إسلامه فكان يقول: “رأيت قومك قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ماذا تصنع، فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك وإن ظهروا عليك لم أتبعك”.
صحيح أن ذا الجوشن قد أسلم متأخرًا وكان خيرًا من أن يظلّ على كفره، لكنه كان كثير التلويم لنفسه على موقفه وميزانه المختلّ ومنطقه الأعوج، إنه كان ينتظر لمن تكون الغلبة، فإن كانت لمشركي قريش فلم يسلم ويدفع ثمن وقوفه إلى جانب رسول الله ﷺ، وإن كانت الغلبة لرسول الله وللمسلمين فإنه سيكون معهم.
ما أكثرهم الذين يحركهم في الحياة منطق ذي الجوشن، منطق الانحياز إلى الحيط الواقف كما يقال. إنه منطق من لا يريد أن يغامر بالانحياز إلى طرف فلعله يكون الطرف الخاسر، حتى لو كان هذا الطرف هو الإسلام. إنه كالذي يجلس على المدرج يراقب مباراة بين فريقين، أو حول حلبة مصارعة أو ملاكمة بين مصارعين، وإذا به يصفق لأي من الفريقين يسجل هدفًا على الآخر ويهتف للمتصارع الذي يوجه ضربة ولكمة للآخر، وباختصار إنه يقف ويصفق ويهتف للفائز والمنتصر أيًا كان.
فإذا كانت هذه السلوكيات وهذا الموقف يصلح أن يكون في مشهد مباراة أو حلبة مصارعة، فإنه لا يصلح أبدًا بل إنه العار والشنار أن يكون هو نفس السلوك لما يكون الامر يتعلق بالحق والباطل. فكن مع رهط الخير.
يا شباب
مساء غد السبت سيهلّ علينا بإذن الله هلال شهر المحرم من العام الهجري الجديد 1446، فاللهم أهلّه علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام هلال رشد وخير ربّي وربك الله يا هلال محرم.
اللهم اجعله عام فرج وخير وتمكين لأمة حبيبك محمد ﷺ.
إنه النداء وإنها النصيحة لشباب الإسلام أيًا كانوا وأينما كانوا، بضرورة أن ينحازوا لدينهم، ليس انحياز عاطفة فقط وإنما هو انحياز الانتماء والعقيدة والهوية المصير.
فليس من المروءة ولا الشهامة ولا الأصالة يا شباب أن تروا دينكم وأمتكم تحاك لها المكائد، بينما أنتم تجلسون على مدرج حلبة المصارعة لا تتحرك فيكم نخوة ولا مروءة الرجال الأحرار.
كان الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين يقول جملته المشهورة: “أنا مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، في إشارة إلى انحيازه المطلق لقضية فلسطين. فلماذا لا تكون أنت أيها الشاب المسلم مع دينك قويًا أو ضعيفًا اليوم وغدًا، في كل الأزمنة والظروف.
يا شباب، إنني على يقين لا ريب فيه بأن دوام الحال من المحال، وأن المستقبل للإسلام وأن تباشير فجره قد لاحت، لا ينكر ذلك إلا أعمى البصر والبصيرة. وإنها فرصتكم يا شباب أن تلحقوا بالركب وأن لا يفوتكم قطار الخير وقطار الانحياز للإسلام، لأن غير ذلك فإنه والله خزي الدنيا والآخرة.
يا شباب إياكم أن لا تكون لكم بصمة في مشروع عزّ الإسلام القادم فتندموا كما ندم ذو الجوشن الضبابي. وإياكم أن تصلوا متأخرين كما وصل الصنابحي، فتقدموا وأنتم واثقون أن هذا الزمان هو زمان الإسلام وأن الدورة دورته، وأن المجد مجده، وأن المستقبل ليس إلا له.
فأسمعوا يا شباب أهل السماء وأهل الأرض هتافكم بافتخاركم وانحيازكم دينكم وأنتم تقولون:
أنا مسلم ولي الفخار فأكرمي يا هذه الدنيا بدين المسلم
وأنا البريء من المذاهب كلها وبغير دين الله لن أترنم
فستشهد الأيام ما طال المـدى أو ضمّ قبري بعد موتي أضلعي
إنّي لغير الله لست بعابدٍ ولغير دستور الســـماء لن أنتمي
إرفع رأسك فأنت مسلم.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.