مقال الشيخ كمال خطيب: “وصلت الرسالة: بضربة حجر وبعضّة كلب”
الشيخ كمال خطيب
رسالة حبيب
قبل إذ دخلت التقنيات الحديثة على الناس في كل تفاصيل حياتهم، فأصبح الشخص ليس أنه فقط يكلم شخصًا آخر فيسمع صوته، وإنما هو يرى صورته. وأصبح الشخص يكتب للآخر رسالة ينقر حروفها على جهاز لا يزيد حجمه عن كفّ اليد، وإذا بالجواب يصله من أقصى الأرض بأسرع من لمح البصر كتابة أو صوتًا أو صورة.
قبل هذه الطفرة التي تجاوزت حدود الخيال، كان ربّ الأسرة إذا خرج لسفر بعيد من أجل العمل، أو الابن إذا سافر طلبًا للعلم، فكان الزوج يكتب لزوجته وأطفاله رسالة شوق وتطمين، أو كان الأب يرسل لابنه الذي ارتحل لطلب العلم، ففي هذه الحالات وأمثالها، فقد كانت الرسائل تستغرق أيامًا وأسابيع لتصل عبر البريد من بلد إلى آخر بواسطة الطائرات ولعلّها قبل ذلك كانت تصل بواسطة القطارات أو البواخر.
ولأن الرسائل كانت تصل على فترات متباعدة، فكان من تصل إليه رسالة من والد أو ولد أو صديق أو حبيب، كان يقرأ الرسالة أكثر من مرة يتمعن في كل حرف من حروفها، ويقف عند كل كلمة من كلماتها، ويحاول استنباط كل معنى من معانيها ثم يحتفظ بها في مكان خاص بعيدًا عن الأعين ليعود إلى قراءتها بين الفينة والأخرى، بل ولعلّه يضعها عند أنفه لعله من خلاله يشم رائحة الحبيب أو العزيز الذي أرسلها.
فإذا كنا هكذا نتعامل مع الرسائل تصلنا موقعة من حبيب أو صديق أو عزيز، فمن باب أولى أن يكون هكذا تعاملنا مع الرسائل التي تصلنا وتقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {قُلْ يَا عِبَادِيَ}. إنها الرسائل تصل من الله تعالى عبر آياته في قرآنه الذي وقّع عليه هو جلّ شأنه وتباركت أسماؤه {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ*لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ*تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} آية 77-80 سورة الواقعة. {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ*نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} آية 192-195 سورة الشعراء.
وإذا كنا بالرسائل تصلنا من بشر مثلنا سواء كان أبًا أو أمًا أو زوجًا أو صديقًا فإننا نستأنس بها ونثمّنها، بل وإننا نعمل بكل ما ورد فيها من طلبات أو نصائح أو حتى نواهٍ ننتهي عنها لأننا نعلم أنها خرجت من عند محب وصادق وناصح يريد الخير لنا.
فكيف لا يكون تعاملنا بنفس المنطق مع رسائل رب العالمين تصلنا من خلال آيات قرآنه المجيد ونحن نعلم أن الله سبحانه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، وأنه لا يريد لنا إلا الخير {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} آية 185 سورة البقرة.
سمعنا وأطعنا
إنهم أصحاب رسول الله ﷺ الذين كانت تتنزل آيات القرآن على رسول الله ﷺ وهم جلوس وبين يديه، فكانوا يتعاملون مع هذه الآيات أنها رسائل مباشرة وشخصية لكل واحد منهم، فكانوا يسارعون للتنفيذ والالتزام والعمل وهم يقولون: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} آية 285 سورة البقرة.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق من خالص ماله على رجل اسمه “مسطح بن أثاثة”، فقد كان فقيرًا ومن أقاربه. فلما كانت حادثة الإفك ووقعت بعض الألسن في عرض عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله ﷺ وبنت أبي بكر الصديق ومنهم مسطح بن أثاثة، قال أبو بكر غاضبًا: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال في عائشة ما قال. فأنزل الله في قرآنه: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} آية 22 سورة النور، فما أن نزلت الآيات إلا واعتبرها أبو بكر رضي الله عنه رساله شخصية موجهة من الله تعالى إليه فقال: “بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي. ثم رجع إلى النفقة التي كان ينفقها على مسطح، وقال: والله لا أنزعها أبدًا”.
ولما نزل قول الله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} آية 245 سورة البقرة، فقال أبو الدحداح رضي الله عنه: “يا رسول الله وأنّ الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح فقال أبو الدحداح: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده وقال: إني قد أقرضت ربي حائطي -بستاني- فيه ستمائة نخلة. وكانت زوجته أم الدحداح رضي الله عنها في البستان، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال: أخرجي فقد أقرضته ربّي عزّ وجل، فقالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها.
لقد فهم أبو الدحداح أن تلك الآية كانت كأنها رسالة شخصية ومباشرة من الله تعالى إليه، وكذلك فهمت زوجته، فما كان منهما إلا الاستجابة وسرعة التنفيذ رضي الله عنهما.
وهذا ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وكان جهوري الصوت، فلما نزل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} آية 2 سورة الحجرات. فظن أن هذه الآية هي رسالة شخصية من الله إليه لأنه كان جهوري الصوت، وظنّ أنه المقصود بمن يرفع صوته في حضرة رسول الله ﷺ، وراح يقول: “أنا كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله فأنا من أهل النار وحبط عملي. وجلس في بيته حزينًا لأيام حتى أن رسول الله ﷺ تفقّده بغيابه، فذهب إليه بعض الصحابة وقالوا له: تفقّدك رسول الله ﷺ وظنّ أنك مريض فما قصتك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت رسول الله وأجهر له بالقول، حبط عملي وأنا من أهل النار”. فأتوا رسول الله ﷺ فأخبروه بما قال، فقال النبي ﷺ: بل هو من أهل الجنة. قال أنس بن مالك راوي الحديث: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان بيننا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنّط ولبس كفنه وقال: بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قُتل رضي الله عنه.
الرسالة في ضربة حجر وعضة كلب
لم يكن فهم الصحابة رضي الله عنهم لآيات القرآن الكريم فقط أنها رسائل من الله تعالى إليهم، وإنما هم الذين صفت نفوسهم حتى أنهم كانوا يعتبرون من كل شيء ويراجعون أنفسهم في كل أمر. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد كان في موسم حج وهو يرمي الجمرات، فكان أن أصابه حجر رماه أحد المسلمين نحو الجمرات فأصاب رأس عمر فشجّه، فليس أن عمر قد غضب وسأل عن الفاعل ليوبخه، فهو لم يفعل هذا أبدًا، وإنما اتهم نفسه وقال: “ذنب بذنب والبادي أظلم”.
ومثل عمر رضي الله عنه وسيرًا على دربه ونهجه في فهم الرسائل الربانية إليه حتى لو لم تكن آيات تتلى، فها هو عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي يقول: “اعتلّ -مرض- أبو زرعة الرازي فمضيت مع أبي لعيادته، فسأله أبي عن سبب هذه العلة، فقال: بتّ وأنا في عافية فوقع في نفسي أني إذا أصبحت أخرجت ما أخطأ فيه سفيان الثوري -يقصد أنه سيحصي المواقف والأقوال والفتاوى التي أخطأ فيها العالم الجليل سفيان الثوري وينشرها بين الناس-، فلما أصبحت خرجت إلى الصلاة وفي دربنا كلب ما نبحني قبلها قط ولا رأيته عدا على أحد، فعدا عليّ فعقرني وحُممت – أصابتني الحمى- من أثر عضة الكلب، فوقع في نفسي أن هذا لما وضعت في نفسي عن سفيان الثوري فأضربت فاقتنعت فإن ذلك الرأي”.
وإذا كان كلب أبي زرعة مأمورًا من الله تعالى وقد فعل ما لم يفعله من قبل بعضّ أبي زرعة لتكون رسالة له لترك ما سبق ونوى فعله من فعل سيء، فإن كلاب جيش إسرائيل قد دُرّبت ولا تُؤمر من الجنود الذين يصطحبونها إلا بالعضّ ونهش الأجساد وتمزيق لحوم الآدميين، حتى لو كان هؤلاء كحالة امرأة عجوزًا تجاوزت السبعين وهي “دولة الطنانة” أو طفلًا وبه إعاقة عقلية وجسدية كحالة “محمد صلاح بَهار”، وكما حصل ويحصل مرارًا وتكرارًا بحق أبناء شعبنا في غزة في هذه الأيام.
وكأن القرآن ينادي عليك
فإذا كان أصحاب رسول الله ﷺ قد تعاملوا وفهموا أن آيات القرآن الكريم كأنما هي رسائل شخصية من الله تعالى إليهم، فكان جوابهم على تلك الرسائل، سمعنا وأطعنا. فهل نحن في هذا الزمان نقرأ القرآن ونعيشه بشعور أن الله تعالى يخاطبنا وأن كلامه وآياته المباركة موجهة إلينا، وأنها رسائل شخصية ومن وقّع عليها هو سبحانه؟
فهل إذا قرأت قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} آية 134 سورة آل عمران، قلت في نفسك إن الله يريدني أن أكظم غيظي وأن أعفو عمن ظلمني، سمعنا وأطعنا سأفعلها يا رب وإني عفوت.
وهل إذا قرأت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} آية 11 سورة الحجرات، فقلت في نفسك سمعنا وأطعنا لن أسخر من مسلم بعد اليوم أبدًا.
وهل إذا قرأت قول الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} آية 30 سورة النور، فقلت في نفسك إن الله يخاطبني ويريدني أنا فلان أن أغضّ بصري سمعنا وأطعنا يا رب.
وهل إذا قرأت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} آية 143 سورة النساء، فقلت في نفسك أن الله يريدني أن أجعل ولائي خالصًا له سبحانه وللمؤمنين فلن أوالي كافرًا وعدوًا أبدًا.
وما أجمل همسات العتاب وما أصدقها على لسان القرآن كلام رب العالمين، أوردها الأستاذ مجدي الهلالي في كتابه النافع “تحقيق الوصال بين القلب والقرآن،” فلكأن القرآن يناديك ويقول: “هل أستحق منك هذه المعاملة مع أن هدفي إسعادك وإدخال السرور والبهجة على قلبك ومساعدتك على مواجهة الحياة حلوها ومرّها؟! أأكون في بيتك وتهجرني كل هذا الهجر؟! أتسمع آياتي تتلى ولا تنصت لها؟! وحتى حين أكون بين يديك فلماذا لا يصير نصيبي منك إلا حنجرتك؟! أتدري أنني سأشكوك إلى ربك يوم القيامة أنك قد هجرتني وأنك لم تعمل بأوامر الله تعالى فيّ، فها بادر قبل فوات الأوان واجعلني حجّة لك لا عليك”.
هل لك قلب
لأن القلوب هي التي تتفاعل مع آيات الله تعالى التي نزلت في قرآنه {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} آية 28 سورة الرعد، فلا بد لهذه القلوب أن تكون دائمًا على جاهزية لتلقي آيات الله تعالى وتدبرها “الاستقبال” ثم لإصدار الأوامر إلى الجوارح للعمل بمقتضاها “البث”. فالقلب هو الذي يستقبل الرسائل من الله تعالى عبر آياته، وهو الذي يحولها ويبثها لتصبح سلوكًا واستجابة لأوامر الله تعالى، ولذلك لا بد من العناية بالقلب وصيانته لأنه معرّض للصدأ والخلل “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”. وقال ﷺ: “إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء. قالوا: وما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن”. فكيف سيذكر الموت قلب ميت، لذلك لا بد من صيانة القلب والعناية به.
إنه الأمر العجيب أن الرجل إذا لقي أخاه سأله عن أولاده وعن عمله وعن صحته وعن تجارته وقلّما يسأله عن السؤال الأهم، كيف حال قلبك؟ وليس الجواب إذا كان السؤال أن يُقال القلب بخير، وإنما أن ذلك الشخص قد لا يملك قلبًا، وقد قال ابن القيم: “أطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمنّ عليك بقلب فإنه لا قلب لك”.
وأنا أزيد على ذلك وأقول: واطلب قلبك عند مآسي المسلمين وجراحهم وآلامهم ودموعهم، أطلب قلبك، كيف حاله مع أربعين ألف شهيد ومائة ألف جريح وعشرة آلاف مفقود ومليوني مهجّر ومشرّد في غزة. واطلب قلبك عند مشاهدة طفل لا يجد شربة ماء، وعند مريض لا يجد حبة دواء، وعند امرأة لا تجد الثوب والكساء. فإذا كان هذا كله، بينما قلبك يتمتع وهو عطشان وفيه متسع للطرب وجوعانوفيه متسع للكيف والاستمتاع فاعلم أنه لا قلب لك، فابحث عن قلبك واسأل الله أن يعافيك.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .